العلاقات الأفريقية الإيرانية- آفاق جديدة بعد الحرب الأخيرة؟

بالرغم من أنه من المبكر الجزم بحدوث تحولات جذرية في مسيرة العلاقات الأفريقية الإيرانية في أعقاب المواجهة العسكرية الأخيرة، إلا أن التفكير في مؤشرات وتداعيات هذه الحرب على علاقة طهران بالقارة السمراء يكتسب أهمية قصوى، وذلك تماشيًا مع التفاعلات والتحالفات الجارية داخل القارة.
منذ عام 1979، شهدت علاقات طهران بأفريقيا تقلبًا مستمرًا، وذلك تبعًا للأوضاع الجيوسياسية المتغيرة في المنطقة المحيطة بإيران، وطموحاتها في إقامة روابط استراتيجية متينة مع الدول الأفريقية المختلفة.
في الماضي، ساهمت عوامل متعددة في توطيد العلاقات بين الطرفين، لا سيما مع دول شمال أفريقيا، وجنوب القارة، وغربها، وشرقها. وقد استفادت طهران بشكل ملحوظ من تطور هذه العلاقات، ومن الأحداث المتشابكة في مختلف أقاليم أفريقيا على مدار العقود الأربعة الماضية، مما أثمر علاقات دبلوماسية وطيدة، وتعاونًا اقتصاديًا وفنيًا وعسكريًا مع ما يقرب من اثنين وعشرين دولة أفريقية تغطي أنحاء القارة. وقد تحولت القارة الأفريقية إلى سوق رائجة للمنتجات الإيرانية، بما في ذلك الأسلحة، مما جعل إيران تحتل مكانة متقدمة بعد روسيا والصين وتركيا في مجال مبيعات الأسلحة.
لكن، مع انتهاء المواجهة العسكرية الأخيرة، وما أسفرت عنه من نتائج بارزة، وبقاء إيران كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، يبدو أن العلاقات الأفريقية الإيرانية على أعتاب حقبة جديدة. هذه المرحلة تستدعي دراسة متأنية بعيدًا عن المؤثرات الخارجية، وتركيزًا على الدروس المستفادة من المواجهة الأخيرة.
في الماضي، أقامت إيران روابط أفريقية استنادًا إلى تحالفات محدودة مع دول قليلة: كالجزائر في شمال أفريقيا، وجنوب أفريقيا في جنوب القارة، إضافة إلى تعاون محدود مع بعض الدول في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا، وفي منطقة الساحل الأفريقي مؤخرًا، النيجر ومالي وبوركينا فاسو. إلى جانب ذلك، تمتعت إيران بعلاقات جيدة وتعاون اقتصادي وفني وتبادل تجاري مع عدد من الدول في غرب ووسط أفريقيا، مثل نيجيريا وغانا وليبيريا وسيراليون وغامبيا والسنغال والغابون والكونغو الديمقراطية. أما الآن، فهي تواجه واقعًا جديدًا يدفعها بقوة إلى تعزيز علاقاتها الأفريقية في أعقاب الحرب ونتائجها المترتبة عليها، وذلك لسببين جوهريين:
- أولًا: على الرغم من الخسائر الفادحة والدمار الذي خلفته الحرب، خرجت إيران منها وهي تحمل صفة لاعب إقليمي على الساحة الدولية. فلم تتزعزع مكانتها على الرغم من المواجهة مع إسرائيل والضربات التي تلقتها مواقعها النووية، ولم تنجح محاولات زعزعة نظامها الحاكم، ومن غير المرجح أن تواجه عزلة دولية كما كان الحال في السابق. وتراهن إيران على انفتاح الأبواب أمامها في المرحلة المقبلة، إذا استطاعت استغلال نتائج الحرب بشكل جيد، والحفاظ على مسافة مقبولة مع الغرب، الذي يسعى إلى تفاهمات معها بشأن برنامجها النووي والصاروخي.
- ثانيًا: تلاشت الكثير من المخاوف الأفريقية التي كانت تثني بعض دول القارة عن التقرب من إيران. فقد كانت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على القارة السمراء بمثابة حجر عثرة يعيق تقدم العلاقات الإيرانية الأفريقية ونموها. كما أن التقارب الخليجي الإيراني، لا سيما مع المملكة العربية السعودية، قد أزال الكثير من هذا الحذر الأفريقي، باستثناء المغرب الذي لا يزال لديه موقف معارض لإيران بسبب دعم الأخيرة لجبهة البوليساريو.
ليس أمام طهران اليوم خيار سوى ترميم جراحها واستغلال هامش المناورة المتاح حاليًا، والاستمرار في الانفتاح على أفريقيا. يمكنها الآن تطوير تعاونها القائم بالفعل مع زيمبابوي والنيجر في مجال تبادل النفط والدعم الفني مقابل اليورانيوم، وهي في أمس الحاجة إلى التعاون في هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، يمكنها مواصلة التعاون العسكري والتجاري مع دول غرب وشرق أفريقيا، والاستثمار في صناعة السيارات والمعدات الزراعية مع السنغال وموزمبيق وتنزانيا وإثيوبيا، ومتابعة الملفات ذات الطبيعة الاستراتيجية المتعلقة بالتواجد الفعلي في باب المندب والبحر الأحمر مع جيبوتي وإريتريا والسودان. هذه تعتبر أولوية قصوى تترافق مع الوجود في اليمن.
تدخل هذه العلاقات في إطار تعزيز النفوذ في المنطقة، ووضع هذا الوجود في هامش المناورة إذا استمر الحوار الإيراني الأوروبي.
هناك قلق متزايد لدى الدول الأوروبية بشأن التواجد الإيراني في منطقة القرن الأفريقي وباب المندب والبحر الأحمر، حيث يتيح هذا التواجد لإيران القدرة على السيطرة على أهم ممرات التجارة الدولية: مضيق هرمز، الذي يمر عبره خُمْس احتياجات العالم من النفط والغاز، وباب المندب، الذي يعتبر نقطة عبور حيوية في الممرات البحرية الدولية.
من ناحية أخرى، ليس لدى طهران ما تخسره بعد المواجهة العسكرية الأخيرة، وهي تسعى بلا شك إلى تعويض خسائرها وتشكيل تحالفات إقليمية تمهيدًا للمرحلة المقبلة.
سيكون محور العلاقات المشتركة مع روسيا والصين في أفريقيا أكثر نشاطًا، ويشمل دول منطقة الساحل الأفريقي: النيجر وبوركينا فاسو ومالي وغينيا كوناكري، ثم الجزائر وتونس وربما مصر في شمال أفريقيا، والسودان وإثيوبيا وجيبوتي والصومال وتنزانيا في شرق أفريقيا. بينما تبدو إيران أكثر اطمئنانًا لعلاقاتها التاريخية مع جنوب أفريقيا وموزمبيق وأنغولا، وستكون جنوب أفريقيا رأس الحربة في الانطلاق نحو علاقات ووجود أقوى في الجنوب الأفريقي.
تستفيد إيران من عدة مزايا وتحولات جارية الآن في البلدان الأفريقية، وعلى رأسها الموقف الأفريقي المتنامي يومًا بعد يوم تجاه إسرائيل، خاصة وأن جنوب أفريقيا والجزائر تقودان تيارًا قويًا مناهضًا لإسرائيل، وقد عملتا على تعطيل وجودها داخل الاتحاد الأفريقي بصفة مراقب.
كما قادت جنوب أفريقيا الحملة الدولية الضخمة والقضية أمام المحكمة الدولية ضد الكيان الإسرائيلي وجرائمه في قطاع غزة. والجزائر وجنوب أفريقيا تعتبران حليفتين لإيران.
يساعد التراجع الفرنسي والأمريكي في القارة، وتزايد النفوذ الروسي، وترسيخ الوجود الصيني في القارة، إيران على التواجد في العديد من هذه البلدان التي تتحالف مع حلفائها الدوليين. وهذا يظهر جليًا في علاقات إيران الحالية في أفريقيا.
يعتقد عدد من المراقبين والمتابعين للعلاقات الأفريقية الإيرانية في شرق أفريقيا وغربها، أن المواجهة العسكرية الأخيرة وضعت إيران في الواجهة بما يتماشى مع التوجهات والميول الأفريقية الراهنة.
إضافة إلى ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن إيران استثمرت على مدى العقود الماضية في قوتها الناعمة في القارة الأفريقية، وحصدت منها الكثير. توجد الآن تجمعات تتبع المذهب الشيعي بأعداد كبيرة جدًا (نيجيريا وحدها تضم ما يقارب خمسة ملايين من أتباع المذهب الشيعي)، وكذلك في السنغال وسيراليون وغانا وليبيريا وساحل العاج ومالي وغينيا بيساو وغينيا كوناكري. وفي شرق القارة وجنوبها، توجد تجمعات مماثلة في كينيا وتنزانيا وموريشيوس وجزر القمر وزامبيا ومدغشقر وموزمبيق وملاوي. أما وسط أفريقيا، فهو يعج بالتجمعات الشيعية من الأفارقة في تشاد والكونغو الديمقراطية والغابون والكاميرون).
ويمثل الوجود الشيعي في القارة، وأعمال المراكز الثقافية والحوزات العلمية والمناسبات الدينية والمؤسسات الإعلامية والثقافية، والتغلغل الاجتماعي، والبعثات والمنح الدراسية التي تقدمها طهران سنويًا لآلاف الطلاب الأفارقة، أهم أدوات التأثير والنفوذ في أوساط المجتمعات المسلمة في القارة. هذه المجتمعات باتت تنظر إلى طهران بعد المواجهة العسكرية والضربات الصاروخية الموجعة التي وجهتها لإسرائيل، على أنها قادرة على المواجهة، مما أضفى قيمة إضافية على صورتها لدى هذه الشعوب التي تكره أمريكا وإسرائيل.
قد لا تتوفر لإيران بعد الحرب الموارد المالية الكافية لتمويل أنشطتها السياسية والثقافية وتقديم المعونات للدول وبناء النسخ الأفريقية من أذرعها الفاعلة، لكنها بالتأكيد لن تتخلى عن استراتيجيتها تجاه القارة السمراء، وستسعى جاهدة لتكثيف مبادراتها السياسية والاقتصادية وكسب المزيد من الأصدقاء، والتعامل بجدية مع الأسواق الأفريقية الصاعدة، وترتيب البدائل للمجالات الحيوية التي قد تراها ضرورية لعودتها قوية، وهي تستعد لحملة شعواء شرسة ستقوم بها إسرائيل في أفريقيا ضد الوجود الإيراني.
في ظل هذه المعطيات، وبالنظر إلى الأوضاع الأفريقية التي تشهد صعود قيادات وتراجع تيارات ورموز قديمة، وتدهور أنظمة وحكومات وصعود أخرى، وتضاؤل الدور الفرنسي والغربي، فإن محور الصين وروسيا وإيران سيجد الفرصة مواتية للتوسع. فإذا ما توسعت روسيا والصين، فإن إيران، على الرغم من جراح الحرب، ستكون حاضرة بلا شك، وستكون المستفيد الأكبر من هذا التوسع.